من نحن؟

التعليقات مغلقة
في البدء كانت الموسيقى. أجنحة الملائكة وهي ترفرف مسرعة نحو الجمع العظيم، حفيف الأثواب الإلهية، الطبول و الأجراس و الآلات النفخية...ثم كانت الكلمة.

في البدء كانت الموسيقى. كانت الريح داخل سيقان القصب الطويل. كان الصدى بين جدران الكهوف. كانت قطرات الندى تتدحرج من أعلى الشجرة السامقة نحو البركة... ثم كانت الكلمة.

في البدء كانت الموسيقى. كانت الصرخة الأولى، مدوّيةً في أوبيرا الكون، نشيد الأم الخافت وحفيف المهد... ثم كانت الكلمة.

في البدء -أي ما يقارب العام- كان شتراوس يعزف للميلاد و ماهلر يعزف للقيامة. كنا نحن الإثنان بينهما ضائعٓين نقلّب السينفونيات وتقلّبنا. نصغي لمعزوفة رأس السنة مجبرين - نمضي في العيش على مضض. كانت الموسيقى وكانت الكلمة، ثم كان ما كان.

لكي نجيب عن سؤال "من نحن"، كان لزاما علينا أن نبحث من حيث جئنا، عن أصل كل الأشياء، عن النغم الأول الذي منه انسلّت كل الأنغام، عن الكلمة الأولى؛ وعن تزاوج هذه الكلمة بذاك النغم. نحن الإثنان -عبد العزيز و أنا- هكذا بدأنا، هكذا تكون كوننا، غير بعيد عن تكوّن الكون العظيم نفسه.

من نحن؟ غير اثنين وجدا نفسيهما يدوْزِنان أوتار حياتهما على إيقاع السينفونية السادسة عشرة لبيتهوفن حين اللهفة و السينفونية التاسعة لماهلر حين الحزن. من نحن من دون اللغة؟ من دون الكتب المدوّخة و الآراء التي تسبح عكس التيار؟ من نحن إن انفرطت أوتار التشيلو، انكسر قوس الكمان أو خرست الأقلام عن الكتابة؟ نحن لسنا غير آدميين توحدهما الكلمة و النوتة، آدميان يتجاسران لتكرار معجزة البدء بسوناتا القلم.

سلمى
___________

بدأ كل شيء في شتاء ديسمبر، حيث نتبرَّم عادةً من صقيعٍ يغطّي أسطحَ المنازل، حاشية الطرق ورغبتَنا في مجاراة صخب الحياة. نميل إلى السكون، فيغدو هذا السكون باردا ومملاً كلما دَنا منا خطوة. نجفل ملل السكون، نفرُّ منه لنسقط في غيهب الرّتابة الشّاحبة. 

تشتد الظلمة في ليل ديسمبر ويطول بؤسنا فيه. تأفُل شمسه قبل المغيب بساعات حتى يكاد السوادُ يجاور السواد. ما من شيء غير البزوغ الخادع والنّفس الأمّارة بالآمال الواهية. هكذا هي دنياي في كلّ شتاءٍ بائسٍ، والربيع لا يقلّ بؤسه إلا ما انتُقص من ليله، ولكن الليل باق لا يأفُلُ.

بدأ كل شيء في شتاء ديسمبر، حيث انفكّت رباطة جأش البؤس خجلاً من تلألؤ حضورها. هي التي جاءت لتستر قُبح عورات الواقع، لتكسر أضلع الليل وتنصب فوق جثّته الهامدة شمس البعث من جديد. هي التي جاءت لتبث الروح في أناملي وقلمي الذي أصابه الخمول، لتخلق ذكرى موسيقية متفردة غير تلك التي دأبنا على سماعها على رأس كل عام. هي التي جاءت لأن مجيئها كان محتوماً، كيف لا وقد وُجد حبّها قبل ذلك كجوهر مجرّد -كما كتب كونديرا يوماً-،  فالحب موجود بجوهره أولا قبل أن يتجسد ويسمّى.

"من نحن؟" سؤال صعبٌ رغم بداهته. لكنّي سأرفع الكلفة بيني وبينكم وأصارحكم بلا مخاتلة: أصالة الأنا المتفردة لا مكان لها بيني وبينها، لا أشعر بالرغبة في البحث عنها حتى. تنصّلت من أناي عمداً وانصهرت في "نحن". أي أميرتي! أنا بك نصفٌ ومن دونك شبه إنسان. لا مناص من "نحن" ولا مفرّ من بيننا، حتى يعزف هذا القلمُ السوناتا الأخيرة خاصتنا. "نحن" أنا الذي هو أنت، وأنت وأنا اللذان يغرقان في "نحن". نحن اللذان ينبضان على نغم السوناتا الخالدة، ويدون هذا القلم خلودنا في عقول العاشقين.

عبدالعزيز