ويلات الذاكرة

عادةً ما أجلس لإرتشاف القهوة بعد ساعة كاملة من العمل المركّز. أتجاذب أطراف الحديث مع زملائي حول السياسة، الدين، العادات والتقاليد... ويدلي كلّ منا برأيه على نحو مرح، رغم الإختلاف الجذري، دون أن يتسبب ذلك في أي صراع مقيت؛ حواراتنا، التي تتخلل وقت العمل، كفيلة بخلق توازن لطيف يخفف وطأة مهامنا هناك.

في ذلك اليوم، كعادتي، جلست بجوارهم في القاعة، بعدما فرغت أنا وإياهم من تقديم اللُّمجة للمسنّين؛ مهامي تتحدد أساساً في العناية بالمسنّين وتقديم المساعدات لهم بما في ذلك إطعام مَن لا يقوى على إطعام نفسه. في غمرة حديثنا كان صوتنا يصطبغ ببهجة عابرة وقهقهاتنا التي تُسمع على طول الرواق كانت تعطي وعداً كاذباً بسعادة مقبلة لهؤلاء المسنّين. سعادة انبرى لها هؤلاء وأفنواْ طاقتهم في البحث عنها طوال حياتهم حتى استفاقواْ فجأة على أزيز موضع قدمهم هنا، خطوة يضمحلّ بها كل وعيدٍ بالسعادة وتبدأ بها حياة جديدة ينبعث منها عطر الأجداث.
تقدّمت نحونا سيدة في الأربعين أو الخمسين من عمرها، تتردد هنا باستمرار لزيارة أمها، اعتذرت منا قبل أن تسترسل في الحديث عن حالة أمها الصحية والذهنية التي تدهورت على نحو مهول وسريع لم يخطر على بال أكثر الأطباء تشاؤماً. قالت لنا بلغة ألمانية بليغة:"أعتذر! لكن أجيبوني أرجوكم! ماذا كان بوسع أحدكم فعله، لو أنه أتى لزيارة أمه مرةً فلم تستطع التعرّف إليه؟ كيف ستتصرفون حينها؟". ترقرقت في عينيها دمعة قبل ان يتبعها سيل جارف من الدموع. خيّم الصمت علينا للحظات، لأن سعة الإجابة عن سؤالها لم تكن لتحتويها كلمات مفرغة أو عبارات مواساة شاحبة. الصمت وحده هو الذي يعبّر عن الإحساس الفعلي بمعاناة الآخر؛ انه أصدق تعبيراً من لغو القول الذي لا يغيّر من طبيعة الحياة القاسية شيئاً. لملمت  السيدة أحزانها في لحظة صحو واصطنعت ضحكةً ذابلةً فشلت في مواراة شجنها قبل أن تنسحب معتذرةً: "اغفرولي حالة الغمّ التي سببتها لكم!". حزّ الموقف في نفسي كثيراً مما جعلني أنغمس في تفكير عميق: بالنسبة للسيدة، هنالك شيء مركزي يوطد علاقتها بأمها، بل يتعدى ذلك ليصبح أساس العلاقة كلها، ألا وهو الذاكرة. لو سألنا السيدة قبل أسبوع عن "فقدان الذاكرة" لفاجأها سؤالنا، لأن المرء غالباً ما ينظر إليه كشيء منفصل عن محيطه الذي يحوي ذاته وأقاربه، على غرار الموت تماماً. غير أن خبر موت الأم كان ليكون أهون بالنسبة للسيدة (لأن إمكانيته مطروحة على الأقل) من موتها هي في ذاكرة الأم، لأن خراب الذاكرة يعني الموت الأبدي للإبنة، إذا سلّمنا أن هنالك حياة أخرى بعد الموت. هل ستعود ذاكرة الأم إلى حالتها الطبيعية بعد الموت، أم أنها ستُبعث فاقدةً لصورة إبنتها؟ الأسئلة المتعلّقة بمصيرنا أبدي دائماً ما نتحاشاها لأن "الأبدي" مرعب؛ أي خلل أو عطب قد يجعل صفة ما مطبوعة على جبيننا إلى الأبد، الشيء الذي جعلها تطرح علينا سؤالاً يبعث في جوهره على بصيص من الأمل "ماذا كان بوسع أحدكم فعله...؟".
كيف السبيل لإقناع السيدة بضروب النظريات الفلسفية التي تختزل جوهر الإنسان في أشياء أخرى غير الذاكرة؟ سيكون ذلك أشبه ما يكون بمحاولة ايقاف جريان نهر نياغارا. تلف في الذاكرة كان كفيلاً بقلب حياة بأكملها رأساً على عقب. منذ تلك اللحظة كفّت السيدة عن رؤية أمها بعين الإعتياد وصارت بالنسبة لها مجرّد كتلة من اللحم والثياب. أما هي فقد أصبح حضورها من عدمه سواء. يا للتعاسة! في مقابل هذه الحالة هنالك امرأة مسنّة في الغرفة المجاورة تمشي طول اليوم على غير هدى مناديةً بإسم ابنتها "اريكا... اريكا..." التي لم تزرها منذ سنين. لا شكّ أنها لا تربأ بنفسها عن لعن ذاكرتها القوية ليل نهار.
انه السبب نفسه في الحالتين: الذاكرة. ويلات الذاكرة التي يلعنها البعض ويحزن لتلفها أقرباء البعض.

هل تريد التعليق على التدوينة ؟