كتاب وداع من غُونتر غْراسْ: الصراعات الأخيرة صُرعت

إلى جانب توماس مان، هيرتا مولر وهيرمان هيسْ يعتبر غُونتر غراسْ واحداً من أهم رواد الأدب في الساحة الألمانية خلال القرن العشرين وبداية القرن الواحد والعشرين. ولد غْراسْ سنة 1927 بمدينة دانتْزسِغْ، التابعة حالياً للأراضي البولونية بعدما إقتطع الحلفاء مناطق عدة من الرايشْ الثالث وألحقوها بدول مجاورة عقب هزيمة الألمان في الحرب العالمية الثانية؛ الشيء الذي جعل كتاباته، التي يصنفها النقاد ضمن أدب ما بعد الحرب، غاصّة بالحنين والحسرة على ضياع مسقط رأسه بالإضافة إلى إداناته المتكررة للنهج السياسي النازي خلال تلك الحقبة.

 انتقل غْراسْ للعيش في مدينة غُوتّنغْن بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، التي شارك فيها كمساعد في سلاح الطيران الألماني قبل أن يسقط أسيراً في قبضة الحلفاء ويُطلق سراحه بعدها، وهناك بدأ مشواره الأدبي كروائي،شاعر وكاتب مسرحي إلى جانب أعمال فنية أخرى كالنحت والرسم. تعد "ثلاثية دانتْسِغْ" من أهم أعماله التي نالت شهرة عالمية كبيرة، تضم ثلاث روايات كتبها غْراسْ على مدا أربع سنوات: "طبل الصفيح"، "القط والفأر" و"سنوات الكلاب". حصل على جائزة نوبل للأدب عام 1999 عن رواياته التي أثرى من خلالها الأدب العالمي بالإضافة الى حصوله على جوائز محلية عديدة. توفي غْراسْ في الثالث عشرة من أبريل عام 2015 بمنزله العتيق القابع بأحد شوارع غُوتّنغنْ القديمة عن عمر يناهز الثامنة والثمانين.
نشرت جريدة "دير شْبِيغل" الألمانية هذا المقال، الذي بين أيدينا، في الخامس والعشرين من غشت عام 2015 على خلفية تقديم آخر عمل للراحل. آخر أعماله الأدبية التي كان بصدد نشرها قبيل وفاته المفاجئ مما جعل صدور كتابه يتأخر أربعة أشهر في جو مليء بالحزن، على عكس طبيعة الكتاب المفعم بالدعابة والروح المرحة. 


كتاب وداع من غونتر غْراسْ: الصراعات الأخيرة صُرعت.

حتى وفاته إشتغل غْراسْ على كتابه Vonne Endlichkait* - قبل عهد قريب عُرض كتابه الأخير بمدينة غُوتِّنغنْ الألمانية. كشفت الإنطباعات الأولية: وداعٌ مفعم بالدعابة - وتعقيبٌ على الحاضر الألماني.
جليّ أنه كان سيمتلئ سروراً؛ أن يرى كيف وقف الجميع في أرشيف غُونترْ غْراسْ**، المنزل العتيق المتواجد بشارع دُوسترنْ بمدينة غُوتِّنغنْ: فرق تصوير، صحفيون وباعة كتب، أزيد من مائة شخص قدمواْ لمعاينة خروج كتاب غْراسْ الأخير إلى العموم.

أسماه "Vonne Endlichkait". اشتغل الى حدود أيامه الأخيرة على هذه النصوص النثرية، القصائد الشعرية والرسومات القلمية. تمّ انتقاء مادة الغلاف (القطن)، نوعية الورق، تدرّج ألوان الرسومات وشدة سواد الخط. لم تقم دار النشر بإرسال أيّة نصوص للصحفيين من قبل. الكتاب كقطعة عمل يدوية، الكتاب ككتاب، غْراسْ الأخير.

 من جانبه أقام كتاب الوداع هذا جسراً يمتد إلى مستهلّ كتاباته، المجلّد الذي يحوي دجاج الرّيح، طيور الريش الخفيفة من الهواء. تربط أول قصيدة من كتابه الأخير العلاقة بما سبق. "أن يكون المرء حراً مثل طائر" تعني: "استشعار النفس. أن يكون المرء حراً حريةً تحاكي الريشة في خفّتها -كحرّية طائر-، رغم أنه في آخر المطاف حر منذ القِدم."



قصيدة للحاضر، كما لو كان حاضراً هنا

تتناول النصوص موضوع الخفّة بإسهاب، خفّة الرجل المسنّ الذي صرع صراعاته جميعها. في أكثر نصوص الكتاب النّثرية مرحاً جرّب غْراسْ وزوجته للمرة الأولى الإستلقاء داخل نعشين. "رغم ضعفنا المتنامي لم يحن وقتنا بعد". وختمها متمنّياً:"هكذا يودّ هذا العام وذاك المضيّ. ليس على النحو الذي نستعجل الموت فيه بعد".

لقد سبقها. كانت أُوتهْ غْراس، أرملته، حاضرة كذلك. قامة طويلة، شعر أشقر فاتح، وشاح مزركش ملتف حول عنقها... هكذا وقفت بكل تواضع على الهامش. تناوب الناشر غِيرْهاردْ شْتايدلْ والمُكلَّف بمراجعة أعمال غْراسْ على إلقاء الكلمة. عُرضت في القاعة جملة من الرسومات، مخطوطات يدوية بالإضافة إلى صورة بألوان مائية للنعشين. 

يحوي الكتاب -كذلك طبعاً- قصيدةً للوضع الراهن، قصيدة للحاضر كما لو كان حاضراً هنا. كلمة "معادٍ للأجانب" تعني: "لكنّهم بقواْ، على نحو متمرّس/ ظل الهُتاف قائماً: انصرفواْ أخيراً!"، ثم أنهاها آمِلاً، أملاً يداخله الشك: "بادئ ذي بدء حين كان أبناء الوطن الحقيقيون غرباء حيال أنفسهم كفاية، بدأواْ أنفسهم يدركون ذواتهم من خلال الغرباء، الذين تعلّمواْ بجهد جهيد مكابدة غربتهم، وعاشواْ معهم.

الكاميرات تصور، الصحفيون يلتقطون صوراً لبعضهم البعض، لكومة الكتب التي لا تزال بعد محفوظة وللرسومات على الجدران. انها المرة الأخيرة التي سنقتني كتاباً جديداً له ونطالع غْراسْ الأخير فيه، المرة الأخيرة التي سنقتفي أثره. هو نفسه كما في أيامه التي عاشها. "قراءة الأثر" هكذا عنونها: "بالقرب من حاشية الموج / أتقدّم نحوي - ذهاباً وإياباً / على الرّمل حافياً."

المصدر: هنا

---------------------------------------------------------------

*Vonne Endlichkait: إختار غْراسْ لكتابه الأخير عنواناً مختلفاً تماماً عن ما سبق، حيث وظف اللهجة التي ترعرع في أحضانها مذ كان صغيراً؛ "Ostpreussisch" أي اللهجة الخاصة بـ "بروسيا الشرقية" وهي منطقة تابعة للأراضي الروسية والبولونية حالياً. بالألمانية تعني "Von der Endlichkeit" أي "من التناه/المحدودية".

هل تريد التعليق على التدوينة ؟